اليكم الجزء الثاني من قصة الزير سالم
فلما فرغ ربيعه من شعره قالت السادات والفرسان عن فرد لسان أن هذا الامر لايطاق وعلقم مر المذاق وليس لنا غير الهزيمه فهي أوفر غنيمه والا حكم سيفه ولاشانا عن بكرة أبينا وبعد مداوله طويلة وجلسه مستطيله استقر رأي الجمهور على أن يذهبوا الى عند تبع المذكور فيسلموا عليه ويقبلوا يديه ويطلبون لانفسهم الامان ويقدموا له التحف الحسان لعلهم يتخلصون بهذه الوسيلة من تلك الورطه الوبيله هذا ماكان من أمر بني قيس وأما الملك تبع فانع في اليوم الثالث ركب في وجوه قومه وتوجه الى مدينة الشام لاجل الزيارة كما تقدم الكلام .
فلما بلغ الغايه ووصل السرايه التقاه زيد بالتعظيم والاكرام واجلسه في أعز مقام وصنع له وليمه عظيمه ذات قدر وقيمه فأحسن اليه وخلع عليه وفرق التحف الثمينه على اكابر اهل المدينه ثم رتب الخراج في كل عام وبعد ذلك رجع الى المضارب والخيام وهو مسرور الفؤاد على المرام وأما بنو قيس فانهم جمعوا التحف الحسان والاموال التي يكل عن وصفها اللسان من عقود وجواهر ومهمات وذخائر وقماش فاخر وحملوها على مائة جمل وركب ربيعه مع أخيه مرة في مائة بطل وسار معهما جماعه من الامراء والقواد الذين عليهم الاعتماد وجدا في قطع البراري والقفار حتى وصلوا الى تلك الديار وعند وصولهم الى المضارب نزلوا عن ظهور الجنائب واجتمعوا بخزندار الملك تبع وكان اسمه ثعلبه حسان ويعلمه ابن الابشع فقدموا له التحف الحسان ليقدمها الى الملك تبع حسان ويعلمه بقدومهم الى الديار فقدمها الخزندار وليعلم بمجىء القوم في مثل ذلك اليوم مرادهم الدخول عليه ليتشرفوا بتقبيل يديه ورجليه ويحصلوا على أمانة ويكونوا من جملة خدامه وأعوانه فتبسم تبع والتفت الى وزيره نبهان وقال له اين ملوك قيس العظام الذين كنت قلت عنهم ماهو كذا وكذا من كلام واني لاأصلح ان اكون من جملة خدامهم وهم قد حضروا الان لتقبيل أقدامي ليكونوا من جملة أعواني وخدامي فقال الوزير وقاك الله من كل شر وضير وجعل عاقبة هذا الامر الى خير فبينما هم في الحديث والكلام أذا دخل على الملك أمراء بنو قيس الكرام فقبلوا الارض بين يديه ووقعوا على رجليه فأخذ تبع ينظر
اليهم ويتأمل فيهم فحانت منه التفاته فنظر الامير ربيعه واقف في باب الصيوان وهو مثل الاسد الغضبان وكان الامير ربيعه لم يدخل مع قومه على الملك حسان لان نفسه ماكانت تطاوعه على الذل والهوان فالتفت الملك تبع الى الترجمان وقال من يكون هذا الانسان فأني أراه معجب بنفسه غاية الاعجاب ولا حاسب لي أدنى حساب فسأل الترجمان عنه فقالوا العشمشم سيد بني قيس الامير ربيعه المعظم .
فلما سمع تبع هذا الخبر شخر ونخر وتبدل بكدر واحمرت عيناه حتى صار مثل الجمر ثم ناداه فحضر وقد تعجب من عظم هيبته وبياض لحيته فسلم ربيعه عليه ووقف بين يديه فقال تبع أأنت سيد بني قيس الكرام فقال نعم أيها البطل الهمام وقال ولماذا أسأت الادب وإحتقرتني دون باقي أمراء العرب الذين تمثلوا أمامي وقبلوا يدي وأقدامي فتقدم الان وقبل رجلي يامهان وإلا قتلتك بحد الحسام وجعلتك عبرة بين الانام .
فقال ربيعه وقد استعظم ذلك الامر واحمرت عيناه من الغيظ حتى صارت مثل الجمر لانه كان من اشرفهم حسبا واعلاهم نسبا ثم قال اعلم ياملك الزمان بأنني ملك من ملوك العربان صاحب قدر وشان وماذلت نفسي لانسان وهذه هي وبلادي وملك أبائي واجدادي وأنا ماتعديت عليك وماأوصلت أذيتي اليك بل أنت شنيت علينا الغارة وأمتلكت بلادنا والحقت بنا الخسارة وذلك بدون سبب من الاسباب فكفى الذي فعلته أيها الملك المهاب وقد بلغت منا قصدك فلا أنت تقبل يدي ولا أنا أقبل يدك فلما سمع هذا المقال خرج عن دائرة الاعتدال وقال يانذل بني قيس ومن هو أذل من التيس أني ماأتيت من بلادي بهذا الجمع المتزايد الا لاجعل زمام الدنيا في قبضة ملك واحد ثم بعد هذا الكلام صاح على الاعوان والخدم بصوت كالرعد في الغمام ياويلكم اقبضوا على هذا الشيخ الكبير ومن معه من بني قيس الطناجير وقيدوهم بالجنازير فامتثلوا أمرة في الحال وقيدوا ربيعه وباقي الرجال وبعد أن قيدوه وأوثقوه أمر الملك بشنقه فشنقوه وهكذا انتهت حياته وانقضت أيامه وساعاته وبقي معلقا ثلاثة أيام حتى جاء نائبه الامير زيد الى الشام فغسله وكفنه ثم وراه التراب ودفنه ثم جاء في باقي الرجال وأرادوا أن يفعلوا بهم مثل تلك الفعال فانهزم الامير مرة من بين أيدي الفرسان وتقدم الى عند الملك تبع حسان وقال الامان ياملك الزمان نحن الآن عبيدك وطوع يديك وجميع أمورنا راجعة اليك فاعفوا عنا فقد صرت لنا ملك ثم انه ابعد هذا الحديث والكلام أشار يخاطبه بهذا الشعر والنظام :
(قال الراوي) فلما سمع تبع شعره ونظامه وعرف قصده ومرامه عفى عنه وأعطاه الامان وكذلك صفح عن باقي الامراء والاعيان وجعلهم من جملة الرعايا والخدام يدفعون له الخراج في كل عام وقال لمرة ياسيد القوم قد صممت أن أتخذ مدينة كرسي مملكتي بعد هذا اليوم فسر أنت وأهلك من هذه الديار وتفرقوا في سائر الاقطار وكونوا لاوامري طائعين ولحكمي خاضعين سامعين .
ثم أنه قسمهم الى عدة فرق وأقام على كل فرقه ملك من سادات بني قيس الاعيان فجعل الامير مرة على الفرقة الاولى وأمرة أن يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع وجعل الامير عدنان على الفرقه الثالثه وأمره أن يقيم قي بلاد العراق وتلك المنازل والافاق زكان الملك تبع قد شتت بنو قيس بهذه الوسيله خوفا من أن يقع في مكيدة أو حيله ثم أنه التفت على الامير مرة وباقي السادات وأشار اليهم بهذه الابيات :
فلما فرغ تبع من كلامه وشعره ونظامه أجابت بنو قيس أمره بالامتثال وتفرقت جموعهم في البراري والتلال وهم يبكون على ماجرى عليهم وما وصل من الاذى اليهم كانوا في أرغد عيش وأهناه وفي عز وجاه كلمتهم بين الناس مسموعه وروايتهم فوق هام المجد مرفوعه لايعرفون الهم والكدر ولايأخذهم قلق ولا ضجر الى ان اصابتهم البليه وحلت بهم تلك الرزيه فبكوا على تفرق بعضهم البعض وتشتتهم في أقطار الارض .
ومن غريب الاتفاق المستحق التسطير في الاوراق هو ماجرى للاربعه أخوة الذين اشتهروا من بني قيس بالحميه والنخوه وذلك أنه كان لزوجة الامير ربيعه المذكورة والد كليب والزير الفارس المشهور أربعة أخوه من الذكور وهم جوشن وناجد وجودر والامير منجد الاسد الغضنفر وكانوا من أجود الناس قد اتصفوا بالشجاعه وقوة البأس .
فلما رأوا أفعال تبع الشنيعه وكيف أنه قتل صهرهم ربيعه ساءهم ذلك الامر وتوقد قلبهم من الغيظ بلهيب الجمر ولكنهم أخفوا الكمد وأظهروا الصبر والجلد فحملوا بيوتهم وعيالهم وساقوا غنمهم وجمالهم وجدوا في قطع البراري والاكام حتى وصلوا بلاد الشام فنزلوا بقرب صيوان تبع حسان فقال لهم من تكونوا من العربان فقال له ناجد أعلم أيها السيد الماجد أننا من خيار العرب أصحاب الحسب والنسب وكان الامير ربيعه متزوجا بأختنا جميله وكنا على زمانه في نعم جزيله والان قد أمسينا في ذل وهوان ليس لنا قدر ولا شان وقد قصدناك وأتينا اليك وجعلنا اعتمادنا بعد الله عليك لعلك ترحمنا وترثي لحالنا وتبلغنا غاية آمالنا وتجعلنا من جملة الاعوان والعبيد والغلمان فتستقيم أمورنا بعد الذل والكدر ونحظى بالشرف الرفيع وبلوغ الوطن فأعجبه كلامهم وبلغهم مرامهم وجعلهم من جملة وزرائه وأكابر أمرائه وكان يستبشرهم في أكثر الاوقات ويفضلهم على الرؤساء والسادات وكانوا يترقبون الفرص ليأخذوا بالثأر ويزيلوا عن قلوبهم الغصص ولما بلغ تبع الغايه دخل الى مدينة الشام ونزل بالسرايه فطاعته العباد وخضعت له جميع البلاد وشاع ذكره في الاقطار وتحدث به الملوك الكبار واستمر على هذه الحاله مدة ثلاثين سنه تهاديه الملوك الاكاسرة وتهابه الملوك القياصرة .
وكان قد بنى له قصرا مرتفع البنيان مشيد الاركان وجعل أبوابه من الفضة والذهب ورصع حيطانه بالجواهر والدرر فكان من عجائب الزمان وذلك لما فيه من التحف الحسان التي تدهش النواظر وتحير العقول والبصائر .
فاتفق ذات يوم بينما هو جالس في الديوان ومن حوله الاكابر والاعيان وهم يتحدثون بذكر نساء العرب اللواتي اشتهرن بالفضل والادب والحسن والجمال واللطف والكمال اذ قال بعض الوزراء انه لا يوجد في هذا الزمان بين بنات العربان في المحاسن والاوصاف البديعه أجمل من الجليلة ابنة أخي ربيعة وأخذ الوزير يطيب في أوصافها وآدابها وألطافها ثم قال في آخر الكلام ان هذه الصبية التي كأنها البدر التمام مخطوبة لابن عمها الامير كليب ومراده ان يتزوج بها في هذه الايام فهنيئا لمن كانت هذه زوجته وقرينته وحبيبتة .
فلما سمع تبع بذكرها وأنها من أجمل بنات عصرها اشتد غرامه بها وتعلق قلبه بحبها وكتب الى أبيها بالحال يأمره ان يرسل له الجليلة بدون اهمال لان مراده أن يتزوج بها ويكون صهره وبهذه الوسيلة يعلو بين الناس قدره ثم ختم الكتاب بهذا الشعر والنظام وبه يتهدده بالانتقام ان لم يتمثل الي هذا الكلام وأشار يقول :
ثم أمر تبع وزيره نبهان أن يركب في جماعة من الفرسان ويقصد تلك القبيلة ويسلم الكتاب الى مرة ويأتيه بالجليلة فامتثل أمره وسار وجد في قطع القفار حتى وصل الى تلك الديار فرأى القوم في سرور وأفراح وشرب مدام وأنشراح لانهم كانوا مهتمين في تلك الايام في جواز كليب بالجليلة بدر التمام .فلما سمع مره بقدوم وزير تبع خفق قلبه من شدة الخوف والفزع فنهض في الحال واستقبله ثم أتى به الي الخيام واحترمه غاية الاحترام وأمر الخدام ان يأتوا بسفرة طعام وآنية المدام فامتثلوا الي أمره كما ذكر وبعد أن أكلوا وشربوا ولذوا وطربوا قال الامير مرة الى الوزير أعلم أيها السيد الخطير لقد زاد سرورنا الآن وتزينت بقدومك الأوطان ثم ساله عن سبب زيارته وما هي غاية حضرته فقال أتيتك بكتاب من تبع ملك الاعارب وبه يطلب ابنتك أمراة له وأنت تعلم بطش هذا الجبار وفعله فقد قال المثل لاتعاند من اذا قال فعل وأنا والله في غاية الحياء والخجل وليس لي أرادة بهذا العمل ولكنني أتيتكم في زي رسول لأعلمك بالخبر اليقين وليس على الرسول الا البلاغ المبين ثم أخرج الكتاب وسلمه أياه ففتحه الأمير مرة وقرأه ولما وقف على حقيقة فحواه انقطعت أمعاءه وضل عقلة وتاه لانه اذا أبى وامتنع يقتله الملك تبع وأن أجابه الى ما يطلب يصير معيرة بين قبائل العرب وتشتمه الناس وتزدريه حيث كان قد أنعم بزواج ابنته الى كليب أبن أخيه فنهار وحار وأخذ يتأمل في عاقبة هذا العمل فلم يجد سوى الخضوع والامتثال لأوامر تبع في الحال خوفا من العواقب وحلول النوائب فالتفت الى الوزير نبهان وقال له أمام الامراء والاعيان ومن حضر في ذلك المكان لقد سوى أمره ورضاه لانه الملك الأكبر وبمصاهرته نحظى على الشرف الرفيع والحظ الاوفر وبعد ثلاثةأيام يكمل جهاز بالتمام فنضعه بالصناديق ونحمله على ظهور الجمال مع باقي الامتعه والأحمال وتركب الجليلة في هودجها وتسير أمام الفرسان وتذهب أنت معنا الى عند الملك تبع حسان فانشرح صدر الوزير بهذا الكلام وأيقن بالنجاح وبلوغ المراد والحصول على الخلوع والانعام فبات تلك الليلة وهو فرحان.( قال الراوي ) فهذا ما كان من الوزير نبهان وأما الأمير مره فانه استدعى بكليب سرا وقص ذلك الحديث عليه وقال أعلم يا ثمرة فؤادي ومن هو عندي أعز من أولادي أن الضرورة أحوجتني الي ذلك خوفا من الوقوع في المهالك وقد اعلمتك بما جرى وتجدد فما رأيك أيها البطل ألامجد فلما سمع هذا الكلام صار الضيا في عينيه كالظلام وقال أرجوك أن تمهل الوزير ثلاثة أيام عن المسير حتى أنظر في هذا الامر العسير .( قال الراوي ) وكان لكليب صديق يتمنى له النجاح والتوفيق يدعى العابد نعمان وكان كثيرا ما يوعده بالخير والاحسان فقصده تلك الليلة وأخبره بما جرى وما كان من أمر الملك تبع حسان فقال له أبشر بالخير يا نور العين فان الرأي عندي أن تجهز مائه صندوق يكون كل واحد بطبقتين في الطبقة الواحدة تضع فارسا من أبطال المكافحة والمجادلة وفي الثانية جهاز الجليلة وانت تكون مهرجا لها أمام سادات الجليلة وبهذه الوسيلة تتم الحيلة وتنال المراد من رب العباد.وأعلم لاخفاك أنه عند وصولك الى هناك تجد سلسلة من النحاس الاصفر معلقة فوق الباب الاكبر وهي مرصدة من سحر هذا الزمان لهلاك من أراد الضرر للتبع حسان فتقع عليه بالحال وتذيقة الوبال فخذ لنفسك الحذر وأتكل على الله آله البشر فهو يحفظك ويحميك وينصرك على جميع أعاديك فاذا بلغت الارادة وفزت بالسعادة بنيت مسجد برسم العبادة وخذ لك هذا السيف الخشب به تنال القصد والارب وأشار يقول:
قا
فلما فرغ العابد من كلامه وعده كليب ببناء المقام على أحسن نظام ثم رجع على الاثر واعلم عمه بذلك الخبر وقال له يقتضي الان أن تبادر بإتمام هذا الشأن وننتخب مائة من الفرسان ونضعهم في الصناديق على ظهور الجمال مع باقي الجهاز والاموال في أمتعه وأحمال على عيون الرجال ويكونوا جميعا بالاسلحه الكامله والعدد الشامله وتركب الجليله هودجها وهي مزينه بالجواهر ويكون في صحبتها جماعة من السراري يدقون أمامها بالدفوف والمزامير وأنا أجعل نفسي مهرجا لحضرتها وقائد لزمام ناقتها وندخل على تبع بهذه الوسيله فان تمت عليه الحيله نلت المرام وأخذت ابنة عمي بحد الحسام وأكون قد بلغت أربي وأخذت بثأر أبي ومتى قتل الملك تبع يقع في قلب قومه الخوف والفزع .
(قال الراوي) فاستصوب الامير مرة كلام كليب وعلم انه سينال المراد بدون أدنى شك ولا ريب فقال لقد نطقت بالصواب وأشرت بالامر الذي لايعاب فافعل ماتريد أيها الفارس الصنديد .
وكان قد أمهل الوزير ثلاثة أيام حتى تتم هذه الامور والاحكام وقد أطلع مرة أبنته على ماتقدم ذكره وعلى قصد كليب فعله فلما كان يوم الارتحال انتخب كليب مائة من الابطال وقص على مسامعهم واقعة الحال ثم وضعهم في صناديق الاحمال وحملوهم على ظهور الجمال وكان من جملتهم الامير جساس وجماعة من عظماء الناس .
وركبت في هودجها الجليله وركب أيضا الوزير والامير مرة وجماعة من فرسان القبيله وتقلد كليب بالسيف من تحت الثياب ولبس فروا من جلود الثعالب والذئاب وأرخى له سوالف طوال من أذناب الكدش والبغال وركب على قطعة من قصب وحمل دبوسا من خشب وكان يقود بزمام ناقة الجليله أمام فرسان القبيله .
وكانت السراري تدق أمام الجليله بالمزاهر والدفوف والفرسان تلعب بالرماح والسيوف ومازالوا يقطعون البراري والاكام مدة ثلاثة أيام حتى أقتربوا من مدينة الشام فنزلوا هناك ونصبوا الخيام ورفعوا الرايات .